مهما كان تخصصك.. يجب أن تتعلم مبادئ التسويق لهذه الأسباب
كان “روبـرت كيـوساكي” يجلس في ردهـة أحد الفنادق الفارهة في سنغـافورة في انتظـار وصول المحررة الصحفية التي ستُجري لقاء صحافيا معه لصالح إحدى المجلات. روبرت كيـوساكي الشهير بالعديد من المؤلفات الأعلى مبيعا في العالم، اشتهر أيضا بكونه من أكثر المحاضرين نشاطا في الطواف عالميا لإلقاء المحاضرات بخصوص الثقافة المالية وتأسيس المشروعات الناجحة، كان في سنغـافورة في ذلك الوقت في أوائل التسعينيات لإلقاء سلسلة من المحاضرات تتحدث عن “أسرار الأثرياء في كسب الأموال” التي لا يشاركونها عادة مع الآخرين.
بعد إجراء الحوار، تشجّعت المحررة وقالت له إنها تتمنى في يوم من الأيام أن تؤلف كتبا تنضم إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعا مثل الكتب التي يؤلفها. وعندما سألها “كيوساكي” عن المانع الذي يمنعها من تحقيق هذا الحلم، خصوصا أن كتاباتها ممتازة من حيث الأسلوب والوضوح والرصانة، أخبرته أنها تكتب روايات رائعة ولكن الأمر لا يجاوز هذا الحد، ولا تلقى رواياتها وكتاباتها أي اهتمام، ولذلك أبقت على وظيفتها كصحافية لتسديد التزاماتها، ثم سألته: هل لديك أي اقتراحات بهذا الصدد، هل يمكن أن تساعدني؟
كتاب الأب الغني؟
كان ردّه مفاجئا. أخرج لها من جيبه بطاقة أنيقة وأخبرها -بهدوء- أنها تحتوي على عنـوان مدرسة تقوم بتعليم أساسيات البيع والتسويق في سنغــافورة يديرها أحد أصدقائه، وأخبـرها بضــرورة التوجّه للالتحاق بأقرب برنامج تدريبي للمدرسة وحضـور محاضـراتها، لأنها ستوفر لها فرصة عظيمة “لتعزيز مؤهلاتها”!
للوهلة الأولى، بدا على المحررة الشابة أنها لم تستوعب ما قاله لها كيوساكي، فسألته إن كان جادا فيما يقول، فكـان ردّه أنه جاد تماما. حينئذ فقط، تحوّلت كل دهشتها إلى عصبية مفـرطة، وأخبرته أنها حاصلة على درجة جامعية في مجال الصحافة ودرجة الماجستير في الأدب الإنجليزي، وتعمل بالفعل في مجلة مرموقة، ولديها خبرة طويلة في مجال الكتابة والتحرير، فلماذا تحتاج إلى التدريب في مجال البيع، خصوصا أنها تكـره هذا المجال أصلا، وتعتبر أن مندوبي المبيعـات لا يسعـون إلى أي شيء في الحياة سوى جمع المال؟
قالتها، وبدأت في جمع مكوّنات حقيبتها بالعصبية نفسها استعدادا للانصراف، فبادرها كيوساكي برفع أحد كتبه أمامها، وأشار إلى الغلاف قائلا بالهدوء نفسه الذي لم يفارقه:
“سيدتي، أنتِ طلبتِ نصيحتي للمساعدة في نشر كتبك، والمكتوب على غلاف هذا الكتاب أنني المؤلف “صاحب الكتب الأكثر مبيعا” وليس الكتب الأحسن كتابة وأسلوبا!.. الواقع إنني كاتب سيئ جدا، بينما أنتِ فكاتبة عظيمة. كل ما فعلته أنا أنني ذهبت إلى كلية لتعلم البيع، بينما أنتِ حصلتِ على درجة الماجستير. فنجحت أنا في كتابة كتب يقرأها الملايين رغم رداءة الأسلوب، لأنني أعرف ما الذي يهم الجمهــور أن يقرأه. لهذا نصحتك أنك إذا قرنتِ درجتك الجامعية بمعرفتك بالبيع، فالمؤكد أنك ستصبحين صاحبة المؤلفات “الأكثـر مبيعا” و”الأجود كتابة” في الوقت نفسه!”
صمتت المحررة قليلا، ثم أخبرته -وقد أخذتها العزة بالإثم- أنها لن تنفذ هذه النصيحة، وأنها كاتبة مخضرمة تلقت تدريبا ومسيرة عملية احترافية في الكتابة ذات المعنى والمغزى العميق، بينما هو رجل بيع يعتمد على البساطة والسطحية والانتشار. ثم أنهت المقابلة معــه، وهرعت للخروج من الباب الزجاجي الضخم للفندق، واختفت عن الأنظـار.
يذكـر “روبـرت كيوساكي” هذا الموقف في كتابة الأشهر “الأب الغني والأب الفقير” (Rich dad , poor dad) الذي أصدره في العام 1997 وحاز شهـرة هائلة لسنوات طويلة، قائلا إن المحررة سطرت عنه مقالا صحفيا منصفا صباح اليوم التالي. ومع ذلك، أبدى أسفه الشديد أنه بعد عدة سنوات من هذا اللقاء لم يسمع أو يعرف أن لها أي إنتاج أدبي نال شهرة كبيـرة، على الرغم من أسلوبها الرائع في الكتابة. (1، 2، 3)
لماذا تدرس التسويق وأنت لست مسوّقا؟
لم يذكــر “روبرت كيوساكي” هذا الموقف في كتابه من باب الترويج لروعة التسويق وأهميته فقط، بقدر ما كان يشدد أيضا على ضـرورة أن يتعلم الجميع -بالمعنى الحرفي لكلمة الجميع- مبادئه لتحسين الفرص للوصول إلى مرحلة من النجاح يصبح فيها الجهد المبذول موازيا للمردود.
ذكـر في أكثر من موضع في كتابه أنه لا يوجد شيء يثير الضيق والاستياء أكثر من رؤية موهوب حقيقي لا يستطيع أن يحصد ثمـار موهبته تلك، لمجرد أنه يجهــل كيف يستغلها بشكل تسويقي جيد يجذب له المال ويوفّر له الحياة الكريمة التي يستحقها مقابل تشغيل موهبته. مهما كانت هذه الموهبة، بدءا من المواهب الفطـرية أو المهارات المتقدمة التي يكتسبها المرء في ممارسة أعمال بعينها.
ومع ذلك، تبقى علامة الاستفهام حاضرة. من الشائع أن يتعلم روّاد الأعمال ومؤسسو الشركات مجال التسويق بأفضل ما يكون، باعتبار أنه صُلب صنعتهم والمحدد الأساسي لنجاح شركـاتهم من عدمه. ومن الشائع أيضا أن يتعلم الحاصلون على درجات جامعية في مجال الاقتصاد أو التجـارة المزيد من مبادئ التسويق باعتباره مسـارهم الوظيفي الطبيعي. لكن، لماذا يتعلّم موظف حكـومي عادي مبادئ التسويق؟ لماذا يضطـر باحث أكاديمي لأخذ دورة في التسويق؟ لماذا من المهم أن يدرس طالب في كلية نظـرية بحتة أهم مبادئ التسويق قبل التخرّج؟ (4)
لكي تظهر نفسك للسوق بشكل صحيح
ربما واحد من أهم الأسباب التي تدفعك إلى تعلّم مبادئ التسويق هو أن تعرف المنهجيـة السليمة للتسويق الذاتي لنفسك. التسويق الذاتي (Personal Branding) بأبسط تعريفـاته هو السُمعة أو الشهـرة أو الهالة المُحيطة بك التي يمكن بناء عليها جذب الفرص الوظيفيـة الأفضـل لك. بمعنى آخر، أن تحوّل شخصيتك الوظيفيــة إلى ما يشبه “علامة تجارية” (Brand) يتعامل معها أصحاب الوظائف والفرص بشكل أفضل.
القاعدة التسويقية تقرر: “قبل أن تبدأ بصناعة المال، يجب أن تصنع المعنى” (Before you can make money, you must make meaning).. لذلك، من الضـروري أن تتقن قواعد صنـاعة المعنى قبل أن تبدأ في الفرص المُحمّلة بالمال إليك، بغض النظر عن مجال العمل الذي تعمل فيه أو الشهادة الأكاديمية التي تحملها أو الخبرة الوظيفية. المهم أن يعرف الآخرون عنك ما تريد أنت بالضبط أن توصله إليهـم من خلال تسويقك الذاتي لنفسك. (5)
بوصــلة تخبــرك باتجاهات السوق
دراسة التسويق في معناها المختصر هو أن تعرف ما يريده السوق، وتعرف إلى أين يتوجّه السوق، ومن ثم تبدأ في تجهيـز إمكـانياتك لاختراقه واستغلال أفضل الفرص والبحث في أفضل المناجم. أن تدرس التسويق يعني أنه سيكون لديك القدرة على تحديد حركة الأسواق فيما يخص الوظائف وتكتلات رؤوس الأموال والاتجـاهات الجديدة في الصناعات والخدمـات والمنتجات، ومن ثمّ التحرك في الاتجاه نفسه.
ربما هذا السبب تحديدا من أكثر الأمور التي تهمّ الباحثين عن الوظائف أو الساعين لإجراء تحوّل وظيفي (Career Shift) قريبا، أو حتى أصحاب الأعمال الحــرة. أن تعرف ما الذي يريده السوق بالتحديد خلال الفتــرة الحالية، وما الذي سوف يريده مستقبلا، وكيف تستفيد من الوضع القائم الحالي بأفضل شكل ممكن.
دراسة التسويق تلقائيا ستعرّفك بالكيفيات التي يمكن من خلالها معرفة توجّهات الأسواق وتزوّدك بآلياتها، ومن ثم تستطيع أن تطبّقها على مستوى حياتك الوظيفية بأن أن تعرف بالضبط ما يطلبه السوق الوظيفي حاليا وما سوف يطلبه مستقبلا من خلال دراسة توجّهاته بدقة؛ سيمنحك الفرصة لتحديد الخطوة الحالية ومن ثم تحديد الخطوة المقبلة أيضا. (4، 6)
تحسين أدوات البحث
في عالم التسويق، العنصـر الأول والأساسي لأي عملية تسويقية وبيعيــة هو إجراء “بحث سوقي” (Market Research). في هذه العمليـة يقوم المسوّقون بدراسة كافة عناصر السوق وتحليله قبل البدء في تحويل الأفكـار إلى منتجات وخدمات جديدة يتم طرحها للمنافسة في السوق. البحث يشمل ما يحتاج إليه المستهلك بالضبط، والمنتجات أو الخدمات المتوقع أن تكون هي المنافسة والموجودة بالفعل في السوق، ومن ثم إعادة تشكيل وتصميم المنتج أو الخدمة بحيث تتناسب أكثر مع متطلبات العميـل، وبالتالي جذبه للاستهلاك.اعلان
يمكن القول إن عملية “البحث السوقي” هي أم العمليـات التسويقية بشكل أو بآخر. إذا كان البحث السوقي متميزا وذا كفاءة عالية، فالمتوقع أن نسبة نجاح الشركة ستكون كبيرة جدا. الأمر شبيه للغايــة بالمدرّب الذكي الذي يدرس خطط الفريق المنافس، ويتعرّف على ثغــراته وبالتالي يعيد تحديد اللاعبين وأماكن تمركزهم بناء على نقاط قوة وضعف الفريق المنافس، وليس بناء على افتراضات اعتباطية بقوة فريقــه وتميّزه فقط.
مجرّد تنمية “آليات البحث” لديك بناء على دراسة آليات البحث السوقية بشكل كافٍ، سيفتح لك الأبواب في كل المجالات، ليس فقط في تطبيق هذه الأدوات على تحليل المسار الوظيفي الخاص بك وإمكـانية إيجاد فرص جديدة أفضل، وإنما سيشمل أيضا تنمية قدراتك على البحث عن آليات التطوير “النوعي” في الوظيفة نفسها التي تشغلها وتؤديها يوميا. بمعنى أكثر اختصارا، تعلم المبادئ الأساسية للتسويق سيقودك لتعلّم الأدوات الأساسية “للبحث” بشكل صحيح وبعيد عن الافتراضات التي لا تقوم على حقائق واقعية. (4، 6)
ستعرف كيف تصل.. وكيف تتواصل
التسويق -في بعض من أهم تعريفـاته- هو معرفة الوسائل التي يمكن من خلالها “الوصــول والتواصل” (Reach and Communicate) مع الشرائح المُستهدفة من الجمهــور. لذلك، فالدور الرئيس الذي يلعبه المسوّقون هو فن التواصل مع الناس بمختلف أنواعهم وشخصيـاتهم وطبقـاتهم الاجتماعية لإقنـاعهم بجودة المنتج أو الخدمة المقدمة. وهذا التواصل لا يتم فقط بناء على شخصيـات المسوّقين ومهاراتهم الاجتماعية، بل يتم بناء على مناهج وآليات محددة بخصوص التواصل مع الآخرين وفن الإقنـاع واختيار العبارات الصحيحة في الأوقات الصحيحة.
تعلّم مبادئ التسويق سوف تجعلك تتعرّف على هذه التكتيكـات وتطبّقها في بيئتك الوظيفيـة المحدودة. تكتيكـات الوصول إلى الآخر والتواصل معه، سواء كان هذا الوصول والتواصل في لقاءات عمل أو مقابلات شخصية للتوظيف أو ترقيـة مهنيــة أو تغيير مسار الوظيفة. في كل الأحوال، تعلم التسويق سيكسبك القدرة على تفعيـل هذه المزيــة في التواصل الفعّـال مع الآخرين عن طريق النقاشات أو أساليب الحوار أو استهداف الأشخاص الصحيحين للتواصل من البداية. (7، 8، 9)
ستعرف كيف تتعامل مع الأزمات
المسوّقـون هم رجال الإنقاذ في أي شركة، المسؤولون عن مواجهـة الأزمات أولا، وتحويلها إلى فــرص للاستفادة منها ثانيا، ثم تحويلها إلى حملة هجـومية على المنافسين ثالثا إذا استلزم الأمر. يشمل التسويق في أحد أهم جوانبـه إستراتيجيـات فعّالة لمواجهــة الأزمات، فضـلا عن وضع منهجيـات وقائيــة لتجنب الأزمات أصلا. هذه المنهجيـات تكون قائمة على قواعد وأساليب منهجيـة مدروسة، وليس مجرد خطوات عفـوية يتخذها المسوّقون بناء على حدسهم الخاص.
أنت تعرف هذا النوع من التحديات. عندما يُطلب منك تحقيق هدف تسويقي ممتاز لمنتج أو خدمة في الوقت الذي تملك فيه ميزانية تسويقية ضئيلة للغاية، فهذا تحدٍّ صعب يستدعي تفعيـل مهارات إبداعية لتجاوزه. عندما يُطلب منك تصميم وترويج إعلانات إبداعية لمنتج ما في سوق مزدحم بالمنافسة بأدوات محدودة، فهذا يستدعي منك تفعيـل منهجيـات للتفكيـر الإبداعي لتحقيق هذا الهدف وفقا للمتاح بين يديك من إمكـانيات. وعندما يُطلب منك ممارسة عدة أعمال في الوقت نفسه، فهذا يستدعي منك تحديد الأعمال العاجلة لإنجازها، وتأجيل الأعمال الأخرى لاحقا رغم أهميتها.اعلان
هذه “العقلية” التي سوف تحصل عليها بفضل تعلّم مبادئ التسويق، بالتأكيد ستساهم في تحسين مسارك الوظيفي المعتاد بشكل مختلف تماما.عقلية التفكيك (Scrappiness mindset) التي تؤهّلك لمواجهة المشاكل وتفكيكها وحلّها رغم ضعف الموارد، حتما سوف تساعدك في مسارك الوظيفي بغض النظر عن المجال الذي تعمل فيه. العقلية التي تجعلك تحدد أولوياتك، وتعرف أين تقف بالضبط، وما يمكنك أن تفعله لتحقيق أفضـل نتائج بالمتاح من الإمكـانيات. (4، 7، 9)
في النهايـة، لا يوجد عمل “ناجح” بدون معرفــة تسويقيـة كافية، سواء كان هذا العمل تأليف كتاب،أو وظيفة نظـامية روتينية، أو عملا أكاديميا بحثيا في جامعة علمية مرموقــة، أو حتى افتتاح متجر لبيع أدوات الخردوات. ستحتاج في كل عمل تخوضه في حياتك إلى أن تتزوّد بالحد الأدنى من المعرفة التسويقية التي تضمن نجاحك في هذا المجال، أو –على الأقل– لا تضطــرك إلى الفشل.